ما أقدر أعيش الواقع المر بسكات


لا تتعب نفسك!!
مقالة للأستاذ محمد الرفاعي

ما أقدر أعيش الواقع المر بسكات

ما أقدر أعيش الواقع المر بسكات

تعود بي الذاكرة إلى ذلك اليوم الذي قُبلت معلما في أحد مدارس وزارة التربية.. أستشعر اليوم فرحتي آنذاك و راحة عقلي من التفكير بعد طول انتظار...كيف لا؟ و أنا متشوق لمهنة الأنبياء والمصلحين!


ذهبت للمدرسة و على الوجه ابتسامة رُسمت، و في القلب سعادةٌ حفرت، و ربما كان دافعي نحو هذه البهجة هو التفاؤل الذي عودتُ نفسي عليه، أو الأحلام التي ملأتُ بها ذهني، و ربما يرجع ذلك كله في الأصل إلى أمرٍ واحد:"جهلي بالواقع".. فما إن وضعت قدمي في مبنى المدرسة حتى تراجعت الابتسامة و تلاشت الأحلام و حل الألم محل البهجة في القلب.


أذكر حينها أني وقفت مذهولاً أمام الفصول القديمة.. ذات الأدراج التالفة أو "المتلفة" ، يتصبب عرقي في ظل غياب التكييف في أغلب الفصول- رغم وجوده شكلاً- أذكر تماما حينها أني حسبت لوهلة أني في بلد آخر، بلدٍ غير نفطي ! قد يستغرب البعض ويعتبر ذلك مبالغة !


مدرسة تكاد لا تجد طاولةً واحدة فيها إلا وتعاني من شلخ وتحطيم ! و كأنها مسابقة لأكثر الطاولات تشوهاً (أذكر إحدى الطاولات نحت سطحها بالقلم نحتا عجز العرب الأنبار أن يأتوا بمثله في البتراء -الأردن ) ! ..


حاولت جاهداً معرفة لون الحائط! هل هو رمادي أم بيج أم مزيج بين لونين فتبين لي أنه أبيض اللون سودته أفعالُ بني آدم من طلبة وسوء إدارة!


وأما الكراسي فعند جلوسك عليها تشعر أنك بقارب يموج بك! لا توازن إما أن يكون الكرسي بثلاث أرجل أو بأربع إحداها عوجاء عرجاء !


و لم أدرك أنّ أبناءنا يعشقون فن الرماية -رغم فشلهم فيه-حتى أبصرت سبورة الفصل المشوهة من تصويبات التلاميذ بسهامهم من الأقلام و و "المساحات" و "البرّايات"، قد أخطأت الهدف و هو المعلم!


شبابيك الفصول طُليت باللون الداكن لتحجب أشعة الشمس ومثبتة من جميع الأطراف، انتابني شعور خانق ربما أنا بسجن الكاتراز؟ (جزيرة الكاتراز الذي يضم أعتى مجرمي العالم) تساءلت عن السبب فأُخبرت أنه "إجراءٌ احترازي"، يبدو أن تلميذا فيما مضى قد ألقى بطاولة زميله من الشباك من باب الدعابة! 


مسجد المدرسة كان الأكثر ترتيباً و نظافةً (ربما لقلة زائريه!)، خزانات الطلبة بلا أقفال! برادات الماء لا تبرد، و صنابيرها إما "مخلوعة" أو تركت مفتوحة يَصْب منها الماء صباً !! ناهيك عن شكلها، كم طالبٍ مر عليها، نظر من حوله، و اطمأن أن لم يلحظه أحد، فركلها لتصدر صوتاً عالياً، و مضى وكأنه لم يفعل شيئا!


في ذات اليوم حضرت طابور الصباح، غطت على تفاهة الموضوعات المطروحة رداءة السماعات و ما تصدره من أصوات مابين فحيح وعويل وأزيز وأحياناً نعيق ! نعم فلا يوجد توزيع للصوت والصدى وكذلك اختيارات الأغاني والأناشيد غير موفقة، لم أعجب من ذلك الطالب الذي نزع "كيبل" السماعات صارخا "أوووف أزعجونا" !.


حمامات المدرسة هي أكثر مكان يعبر به الطالب بحرية! تحول باب الحمام إلى تويتر فضائحي وجداره إلى لوحات انستغرامية! إذا أطلعت على هذه الجدران ستجد تحية خاصة لمدير المدرسة وأستاذ العلوم! نقد شتائم لا تعد للمعلمين، ورسومات ساقطة ورسائل حزينة وأحياناً حب وغرام وتواقيع وعيون دامعة وأبيات شعر، و العجيب أن أحدهم أراد النصح فكتب هو نفسه "لا تكتب على الباب يا......" ثَم يختمون خربشاتهم بكلمه غفرانك!
أليس من طريقة أفضل للتعبير؟ أليست هذه (ظاهرة) تستحق الاهتمام؟


أقسام المعلمين سوق شعبي، فول وفلافل و حُمُّص بيض مقلي وفطير مشلتت رهش عسل بقصمات وحب شمسي شاي و قهوة، كل أنواع الأكل الباعثة على الخمول ! أما مقصف المدرسة فالحال فيه ليس ذات الحال!! حرب على الطعام تذكرك بالجائعين في العالم، أقتربَ مني طالب ٌضعيف البنية متوسلا أن أشتري له وجبة إفطاره، أدركت حينها أن "المقصف" (للعتاويه) ، و المعلمون " المسئولون" المتخمون يتفرجون!


ذهبت حزيناً أشكو حال المدرسة لمعلم قديم، لخص لي خبرته التي تناهز الثلاثين عاما في جملة واحدة :"لا تتعب نفسك".


هل حقا؟


ربما لخص لي هذا المعلم أصل الداء، كلُّ قبل بالأدنى حتى صار واقعا !!